عبدالمنعم عشرى Admin
الابراج : عدد المساهمات : 817 النقاط : 5 تاريخ التسجيل : 31/07/2009 العمر : 31 الموقع : coolfree.forumegypt.net
الورقه الشخصية الورقه الشخصيه:
| موضوع: رد: الإمام الشافعي الأحد 14 أغسطس - 10:01 | |
| واتخذ لنفسه دارا، وبدأ يدرس فقه العراق على يد محمد بن الحسن تلميذ الإمام أبي حنيفة. لقد درس هذا الفقه مرة عندما كان في نحو العشرين، وهاهو ذا اليوم في نحو الخامسة والثلاثين وقد أكسبته السنون خبرة، وأنضجت الدراسة والمعاناة والتأملات عقله وقلبه، يعيد دراسة فقه أبي حنيفة وغيره من فقهاء العراق. ويبذل في كل أولئك من الجهد ما جعل الطبيب يحذره من السل. صاحب الشافعي محمدا يتلقى منه فقه أهل الرأي، ولم يجد في ذلك غضاضة، فقد كان دائما مشوقا إلى المعرفة، وإلى المزيد من العلم ـ وكان يقول: "من حسب أنه علم فقد ضل وجهل". ولزم الشافعي حلقة محمد بن الحسن في بغداد، وشاهد في الحلقة مخالفة مالك، وهجوما على آرائه، وكان يستحي أن يواجه محمدا في الحلقة بخلافه معه حول الإمام مالك، فما يكاد محمد ينصرف عن حلقته، حتى يسرع الشافعي في مناظرة تلاميذ محمد، مدافعا عن فقه الإمام مالك، وعن أهل السنة، حتى لقد أطلقوا عليه في العراق اسم "ناصر السنة". وعرف محمد أن الشافعي يناظر في غيابه، فأصر محمد على أن يناظره الشافعي. وأبى الشافعي خجلا من محمد، ولكن محمد ألح عليه فتناظرا في رأي الإمام مالك في الاكتفاء بشاهد واحد مع اليمين. وظهر الشافعي على محمد في المناظرة. ثم رجع الشافعي عن هذا الرأي عندما رحل إلى مصر، وسمع من تلاميذ الإمام الليث حجة شيخهم في التمسك بشاهدين .. فأخذ الشافعي برأي الليث .. أعجب محمد بالشافعي، وولع بمناظراته، وأعجب الشافعي بعلم محمد وبخلقه العلمي، فما كان يغضب إذا غلبه مناظر، وما أسرع ما كان يعترف لمناظره بالصواب إن اقتنع بحجته. قال عنه الشافعي: "ما رأيت أحدا سئل في مسألة فيها نظر إلا رأيت الكراهة في وجهه إلا محمد بن الحسن". وقد بلغ من حب محمد للشافعي، أنه كان على موعد مع الخليفة، إذ بالشافعي أمام دار محمد، فنزل محمد عن دابته، وقال لغلامه اذهب فاعتذر. وأخذ بيد الشافعي، فقال الشافعي: "لنا وقت غير هذا" فقال محمد: "لا". ودخل به داره يتناظران ويتدارسان. وعلى الرغم من أن محمدا من أهل الرأي من اتباع أبي حنيفة والشافعي من اتباع مالك شيخ أهل السنة ـ وبين أبي حنيفة ومالك خلاف كبير في الأصول والفروع ـ على الرغم من ذلك فإن محمدا كان يمدح لتلاميذه علم الشافعي وسألوه لماذا يؤثر الشافعي عليهم على الرغم من خلافهما فقال: لتأنيه وتثبته في السؤال والاستماع. أثرت الحياة الفكرية في بغداد ثراء عظيما بمحاورات الشافعي ومحمد بن الحسن، وكانت مثالا لأدب المناظرة، وبراعة المتناظرين. لكم كان الشافعي عفيف اللسان فهو لا يسيء إلى أحد ولا يحب أن يذكر أحد بسوء أمامه. قال له أحد أصحابه فلان كذاب. فقال: لا تقل (كذاب) بل حديثه غير صحيح. وكان يعظ أصحابه: "نزهوا أسماعكم عن استماع الخنا كما تنزهون ألسنتكم عن النطق به ـ فإن المستمع شريك القائل. والشافعي على الرغم من خلافه مع أبي حنيفة إمام الرأي كان إذا سئل عن مكانته بين فقهاء العراق ـ ومنهم أهل الحديث ـ قال: "سيدهم" ولعل أروح محاوراته مع محمد بن الحسن، هي تلك التي دارت حول الغصب. قال محمد للشافعي: "بلغنا أنك تخالفنا في مسائل الغصب" "فقال الشافعي" أصلحك الله إنما هو شيء أتكلم به في المناظرة فإني أجلك عن المناظرة. ولكن محمدا صمم على أن يناظره فسأله: "ما تقول في رجل غصب ساحة وبني عليها بناء وأنفق عليها ألف دينار، فجاء صاحب الساحة وأقام شاهدين على أنها ملكه؟ قال الشافعي: "أقول لصاحب الساحة ترضى أن تأخذ قيمتها؟ فإن رضى وإلا قلعت البناء ودفعت ساحته إليه. قال محمد: فما تقول في رجل غصب لوحا من خشب فأدخله في سفينته ووصلت السفينة إلى لجة البحر، فأتى صاحب اللوح بشاهدين عدلين. أكنت تنزع اللوح من السفينة؟ قال الشافعي: "لا" قال محمد: "الله اكبر تركت قولك! ثم ما تقول في رجل غصب خيطا فرجحوا بطنه فخاطوا بذلك الخيط تلك الجراحة، جاء صاحب الخيط بشاهدين عدلين أن هذا الخيط مغصوب أكنت تنزع الخيط من بطنه؟ قال الشافعي: "لا" فقال محمد: "الله اكبر. تركت قولك" فقال الشافعي: أرأيت لو كان اللوح لوح نفسه (لوح صاحب السفينة) وأراد أن ينزع ذلك اللوح من السفينة حال كونها في لجة البحر، أمباح له ذلك أم يحرم عليه؟ قال محمد: "يحرم عليه" فسأل الشافعي: "أرأيت لو جاء مالك الساحة وأراد أن يهدم البناء أيحرم عليه ذلك أم يباح؟". فأجاب محمد: "بل يباح" قال الشافعي: "رحمك الله فكيف تقيس مباحا على محرم؟". قال محمد: فكيف يصنع بصاحب السفينة؟ قال الشافعي آمره أن يسيرها إلى أقرب السواحل، ثم أقول له أنزع اللوح وادفعه لصاحبه. قال محمد: عن أبي سعيد سعد بن سنان الخدري رضي الله عنه : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( لا ضرر ولا ضرار ) ، حديث حسن ، رواه ابن ماجة و الدارقطني وغيرهما .قال الشافعي: من ضره؟ هو ضر نفسه ثم سأل الشافعي: "ما تقول في رجل من الأشراف غصب جارية لرجل من الزنج في غاية الرذالة". ثم أولدها عشرة كلهم قضاة سادات أشراف خطباء. فأتى صاحب الجارية بشاهدين عدلين أن هذه الجارية التي هي أم هؤلاء الأولاد مملوكة له ماذا تعمل؟ قال محمد: أحكم بأنه أولئك الأولاد مماليك لذلك الرجل. قال الشافعي أنشدك الله أي هذين أعظم ضررا أن تقلع البناء وترد الساحة لمالكها أو أن تحكم برق هؤلاء الأولاد؟ فسكت محمد بن الحسن، أما تلاميذه في الحلقة فمالوا إلى رأى الشافعي. أقام الشافعي في بغداد أعواما قلائل. استوعب فيها كل معطياتها من العلوم الطبيعة والدينية والرياضية والفقهية، وناظر فقهاءها، وقرأ عليهم كتاب الإمام مالك "الموطأ"، ودافع عن أهل الحديث، وأفاد من أهل الرأي. وشعر آخر الأمر بالشوق إلى مكة، وبأنه قد جمع من المعارف ما يؤهله لأن يجلس في المسجد الحرام مجلس المفتي والأستاذ وشيخ الحلقة. وكانت مناظراته قد أعجبت الرشيد، فعرض عليه أن يوليه القضاء في أي مكان يريد، أو يجعله واليا على أي قطر يختار.ولكن الشافعي استأذن الرشيد في أن يتفرغ للعلم، وأن يعود إلى مكة ليعيش بين أهله من قريش وينشر ما تعلمه بين الناس. وأذن له الرشيد. وعاد الشافعي إلى أم القرى. فاتخذ له مجلسا للفتوى والتدريس في فناء بئر زمزم بجوار مقام إبراهيم خليل الله .. وهو المجلس الذي اختاره من قبل في عصر الصحابة، عبد الله بن عباس مفسر القرآن الكريم، وأحد الذين حفظوا فقه الإمام علي بن أبي طالب وأقضيته، وكان نائبه على الحجاز عندما كان الإمام علي كرم الله وجهه أميرا للمؤمنين، يحكم الدولة الإسلامية الغنية من الكوفة في بيت هو من أدنى بيوت المسلمين. عاد الشافعي من بغداد، ولا يزال في أذنيه طنين من ضجيج المناظرات .. وقد أتاح له مقامه الطويل هناك أن يقترب من أهل الرأي، وأن يقرب أهل السنة من الرأي .. وأن يقنع بعض أهل الرأي بما عند أصحاب السنة .. ومازالت صور من محاوراته مع محمد بن الحسن تلح عليه .. في حواره مع محمد بن الحسن شيخ أهل الرأي في العراق بعد الإمام أبي حنيفة كان الشافعي يحاول أن يقرب المذهبين، وكان مفتونا بذلك الطريق الوسط الذي اختطه الإمام الليث بن سعد المصري بين أصحاب الرأي وأهل السنة. إنه لا يستطيع اليوم أن ينحاز إلى أي الحزبين .. فكيف استطاع الإمام الليث أن يجد هذا المنهج الوسط؟ كانت آراء الليث قد انتهت إلى الشافعي منذ كان في اليمن، ولكنه كان في حاجة إلى المزيد، ولابد من السفر إلى مصر ليتلقى العلم من إمامها الليث بن سعد. ولكن أهله في مكة أم القرى يستبقونه. وإذن فليقم في مكة أم القرى حتى يقضي الله أمرا كان مفعولا. وحتى يؤذن له بالسفر إلى مصر. لقد أصبح الآن يملك من عطايا هارون الرشيد ما يسمح له بالتفرغ الكامل للعلم. وأنفق نصف ما حمله من العراق على فقراء مكة، تنفيذا لوصية أمه: أن يتصدق على الفقراء بنصف ما معه كلما قدم إلى أم القرى. وهاهو ذا الآن إمام يجلس للتدريس والإفتاء. ثابتا، راسخا، مطمئن النفس. وجعل يجلس في المسجد الحرام ساعات قليلة بعد الفجر، أما بقية النهار والليل فقد خصصه للتأمل، ولاستنباط منهج في الفقه. لكم هو نادم لأنه أضاع وقته، إذ قبل وظيفة في اليمن فدخل فيما ليس من شأنه على حساب ما كان ينبغي أن يحصل من معرفة، ويشيع من علم، وعلى حساب طلب الحقيقة والحكمة .. على أن الوقت لم يفت بعد، وعليه أن يعوض ما فات .. إنه لعمل النهار والليل إذن...إنه ليفسر القرآن ويستنبط دلالات آياته، ويدرس الناسخ والمنسوخ، ويدرس السنة ومكانها من القرآن، ويتعرف على صحيح الأحاديث من باطلها، في عصر كثر فيه وضع الأحاديث إما مشايعة للفرق السياسية المتناحرة، وإما كيد للإسلام، وإما غفلة من وضاعي الحديث أو ناقليه حتى لقد صح عنده أن بعض الذين سمعوا الأحاديث كانوا يسمعون بعضها فيكتفون به، وقد يكون فيما يسمعوه منها ما ينسخ ما نقلوه. ثم أخذ يفكر في كيفية استخراج الأحكام إن لم يكن هناك نص في القرآن أو السنة وكيف يجتهد المجتهد وما ضوابط الرأي. ووضع كتابا أسماه "الرسالة" فيه القواعد الكلية العامة لاستنباط الأحكام وأسس هذا الاستنباط، وأعاد النظر فيه فنقحه واختصر منه ولكنه لم يطمئن إلى نشره، فرأى أن يتركه بعض الوقت عسى أن يعيد النظر فيه، بعد طرح ما فيه من أفكار على أهل حلقته، ومناظرة شيوخ مكة وعلماء الأمصار الذين يفدون إلى البيت الحرام. وطال مقامه بأم القرى هذه المرة، وطابت له فيها الحياة، وجذب إليه الكثيرين من رواد الحلقات الأخرى في المسجد الحرام. وجلس إليه بن حنبل فأعجب به، فذهب احمد إلى أصحابه الذين يلتمسون العلم في حلقات أخرى بالمسجد الحرام وأغراهم بالذهاب إلى حلقة الشافعي. ويروي أحد أصحاب ابن حنبل: "قمت فأتى بي احمد بن حنبل إلى فناء زمزم، فإذا هناك رجل عليه ثياب بيض، تعلو وجهه السمرة، حسن السمت، حسن العقل، وأجلسني احمد بن حنبل إلى جانبه". وقال احمد ابن حنبل لصاحبه: "اقتبس من هذا الرجل فإنه ما رأت عيناي مثله، فإن فاتنا فلن نعوضه أبدا". ثم عاد الشافعي من جديد إلى كتابه "الرسالة"، يتأمله ويهذبه حتى استقام له علم أصول الفقه، فرأى أن يذهب إلى العراق يعرض على شيوخه هذا العلم الجديد ويناظرهم فيه. كان قد جاوز الخامسة والأربعين، وقد أصبحت له بمكة مدرسة واتباع وقد أطلقوا عليه في مكة "المفتي المكي"، و"العالم المكي". وجلس في حلقة بجامع بغداد، يشرح للناس ما وصل إليه في "الرسالة" من أصول. وهناك بهر بعلمه الفقهاء والتلاميذ .. ذلك أنه قد انتهى إلى أن القرآن الكريم قد جمع الأحكام وجاءت السنة شرحا وتبيانا لما في القرآن .. فعلى المجتهد أن يبحث عن الحكم في القرآن أو السنة .. فإن لم يجد ففي إجماع الصحابة .. إجماع الصحابة في كل الأقطار لا في المدينة المنورة وحدها، بحيث لا يصح إجماع إلا إذا اتفق عليه كل الصحابة. فإن لم يجد المجتهد حكما في كل ذلك، فعليه أن يبحث في علة الحكم الواردة بالنص، ويلحق بهذا الحكم ما يتشابه معه في العلة من القضايا الجديدة، وهذا هو القياس، وبهذا أرض الشافعي أهل الرأي وأهل الحديث جميعا. احتفلت به بغداد كما بم تحتفل بفقيه زائر من قبل، وفرح به تلميذه احمد ابن حنبل الذي كان ألف أن يختلف إلى حلقته ويلزمه كلما زار مكة حاجا أو معتمرا، قاصدا إليها على قدميه .. وتمنى التلميذ على أستاذه أن يقيم في بغداد سنوات فينشر علمه ويؤسس فيها مدرسة فقهية جديدة. ولكن الحياة لم تطب للشافعي في بغداد .. لكم تغيرت بغداد خلال هذه السنوات الطوال التي أقامها الشافعي في مكة..! لم تعد بعد بغداد التي أحبها .. ومات خير أصدقائه محمد بن الحسن، ولحق به آخرون، وسجن الباقون أو تركوا العراق، وذهب الرشيد، فاضطربت الأمور بعد موته .. اختلف أولاده .. وحارب الأخ أخاه على الخلافة .. فقد ولى الأمين ولم يكد يستقر على العرش حتى وثب عليه أخوه المأمون فقتله، وتولى مكانه. ومازالت أصداء النواح على البرامكة تملأ آفاق بغداد، منذ نكبهم الرشيد. وهم أقرب الناس إليه، وأعمل فيهم السيف وآلات التعذيب حتى لا يرى فوق ظهرها برمكيا. ثم إن الرشيد بطش بكل معارضيه، ومازالوا تحت الأصفاد في كهف سحيق .. وما انفك من بين رجال العلم من يكيد لمخالفيه في الرأي ويحاول أن يوقع بهم عند المأمون .. الخليفة الذهبي .. وشيء جديد يشغل مجالس الفقه عما ينبغي أن تشغل به مما يفيد الناس في دنياهم .. فالأفكار التي تطرح على ندوات العلم والفقه هي صفات الله وعلاقتها بذات الله تعالى .. والجبر والاختيار.ثم إن العناية بالقرآن الكريم قد عدلت عن تدبر آياته وفهم الأحكام منها، وتحرى مقاصدها بما يضبط معاملات الناس وسيرتهم في دينهم ودنياهم، وانصرف العلماء والفقهاء إلا قليلا إلى مناقشة صفة القرآن الكريم: أقدم هو أم مخلوق؟ جدل نهى الصحابة عنه، وانصراف عن مصالح العباد، ومباحث ما كانت تشغل حلقات العلم والفقه من قبل، بل كانت تعرض لتختفي، فهاهي ذي الآن تسيطر على العقول والقلوب.! وهكذا كله غير ما ينبغي أن يشغل المسلمين!! إن هذا لشيء عجيب ..وعلى الرغم من الازدهار الحضاري الفائق، فقد أحس الشافعي أن الجسارة الفكرية في مواجهة مقتضيات الحياة باستنباط الأحكام قد بدأت تنحسر، ليزحف مد جسارة زائفة، هي الجرأة على الشريعة نفسها، وشغل الناس بما لا ينفعهم في مواجهة حياة كل يوم. يواكب هذا كله دعوة ملحة إلى الزاهد فيما أحله الله لعباده، وحض الناس على القناعة بالفقر، ليكنز الكانزون، ويستمتعوا دون الرعية حتى بما حرم الله..! لم تعد بغداد هي المدينة التي أحبها الشافعي من قبل، وأفاد من مناظراته لعلمائها، وأتقن فيها علوم الطب والفلك، والفقه. وإذن ما بقاؤه في بغداد!؟ وإلى من يأنس فيها؟! ومع من يقضي وقته!! لقد ألف حين زارها في المرة الماضية أن ينفق وقته مع صفيه وأستاذه محمد ابن الحسن .. أين رفاق ذلك الزمان من العلماء والفقهاء؟ لا أحد بعد! والإنسان يحب من المدائن تلك التي يجد فيها الراحة والألفة، وحسن الصحبة، وجمال الرفقة .. ولكنه الآن في بغداد لا يجد من يأنس إليه غير احمد بن حنبل. إنه لأحب تلاميذه إليه حقا، وما يقيم الشافعي عليه في بغداد الآن إلا من أجل احمد بن حنبل...ومر عليه شهران في بغداد، واستدعاه المأمون، فعرض عليه أن يوليه منصب قاضي القضاة، وهو في المنصب الذي كان يشغله محمد بن الحسن أيام الرشيد، ولكن الشافعي كان قد ألي على نفسه ألا يتولى منصبا، وأن يخصص كل وقته للفقه، فإن وجد متسعا من الوقت فليخصصه للشعر، وما أقل ما كان يجد الوقت للممارسة هذا الفن الحبيب إليه! .. وما اكثر ما اكن يخشى أن يعرف عنه أنه قد أدركته حرفة الشعر فينبذه الفقهاء المتزمتون؟. وتلقى دعوة إلى زيارة مصر من واليها الجديد، ومن أحد تلاميذه الذين أملى عليهم "الموطأ" في مكة من قبل، وألف استقباله في كل موسم حج، وقد أصبح تلميذه هذا الآن فقيها ذا شأن في مصر وتاجرا اسع الغنى وهو ابن عبد الحكم. لقد طوف الشافعي في الآفاق وعرف الدنيا وعرف الناس، زار اليمن والعراق والشام وفارس والأناضول، إلا البلد الذي سمع فيه من علم وحكمة، وتمنى أن يزوره .. زار كل عواصم الفقه .. إلا مصر..! وتاقت نفسه إلى زيارة مصر .. إنه يعرف أن أول كتاب ترجم إلى اللغة العربية هو كتاب مصري في الطب، ترجمه في صدر الإسلام علام قطبي من أهل مصر .. وقد تعلم الشافعي من هذا الكتاب .. وهو يعرف أن حكماء اليونان الذين بهرته أفكارهم وكل آثارهم، قد تعلموا الحكمة والطب والفلسفة والرياضيات في مصر القديمة .. وهو يعرف أن مصر من بين كل البلاد المفتوحة هي البلد الوحيد الذي عرف عقيدة التوحيد قبل الديانات السماوية .. من يدري .. ربما كان بها رسل وأنبياء ممن لم يتحدث عنهم القرآن، وقد أخبر الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم في القرآن بأنه أرسل من الرسل من لم ينزل قصصهم في القرآن، ولم ينبئه بأمرهم فيما أنزل عليه من أنباء الغيب!. وهو يعرف أن في مصر مزجا من الحضارات، وأن الحضارة المصرية القديمة قد شكلت الإنسان المصري فعلمته حب العدل والحرية والحقيقة والحكمة، ثم جاءها الإسلام فأنبت فيها نباتا طيبا، وصاغ لها حياة خصبة من الأخوة .. وأنه ليتوق إلى التعرف على ما تركه الصحابة الأوائل في مصر، منذ جاءوها في جيش الفتح، وهو بعد يريد أن يعايش تلك المدرسة المصرية العظيمة في الفقه الإسلامي، الغنية باجتهادات الإمام الليث، رائد الشافعي في الطريق الوسط بين أصحاب الرأي وأهل الحديث. وأصبح الشافعي ذات يوم فأعلن أنه راحل من غده إلى مصر، فألح عليه تلميذه احمد بن حنبل أن يبقى معهم في بغداد. ولكن الشافعي كان قد عزم فما عليه إلا أن يتوكل. وزار قبر الإمام أبي حنيفة، وصلى ركعتين .. ولاحظ مرافقوه أنه عدل عن قواعده في حركات الصلاة إلى قواعد أبي حنيفة، فلما سألوه في ذلك قال: "أدبا مع الإمام أبي حنيفة أن أخالفه في حضرته". واجتمع خلق كثير في وداع الشافعي. احمد بن حنبل ما برح يحاول إقناعه بالبقاء في بغداد، فيمسك الشافعي بيد ابن حنبل ويترنم: لقد أصبحت نفسي تتوق إلى مصر ومن دونها أرض المهامه والقف والله ما أدري الفـوز والغـنـى أسـاق إليـها أم أسـاق إلى القبر وبكى احمد بن حنبل. وبكى الشافعي والحاضرون، ودعا الشافعي احمد ابن حنبل أن يزوره في مصر، فوعده احمد بالزيارة إن شاء له الله. وصل الشافعي إلى مصر، واستقبله على أبواب الفسطاط عدد من الفقهاء ورجال الدولة كلهم يستضيفه. ويلح عليه أن يقبل الضيافة ودعاه الوالي إلى منزل كبير خصصه له، ولكن الشافعي أثر الإقامة عند أقارب أمه، تشبها بالرسول عليه الصلاة والسلام حين هاجر يثرب، فأقام عند أخواله. وكانت جماعات القبائل العربية مازالت تفد إلى مصر منذ الفتح الإسلامي، فتستوطن المنازل التي تألفها، إما في الفسطاط أو في الأقاليم. وكان أول ما صنعه الشافعي حين استقر به المقام أن ذهب إلى قبر الإمام الليث فزاره. وقال وهو يقف على قبره: "لله درك يا إمام، لقد حزت أربع خصال لم يكملن لعالم، العلم والعمل والزهد والكرم". وبعد أن فرغ من زيارة الإمام الليث سأل عن دار السيدة نفسية، وكانت تقيم بمصر. منذ سجن أبوها، وكان واليا على المدينة وهي حفيدة الحسن بن علي وزوجها هو إسحق المؤتمن بن الإمام الصادق جعفر بن محمد حفيد الحسين بن علي رضي الله عنهم. واستأذنوا للإمام الشافعي في زيارتها فأذنت له، ورحبت به، وأعجبها عقله وورعه، وسمع منها ما لم يكن قد وصل إليه من أحاديث شريفة. وألف منذ تلك الزيارة أن يجلس في حلقتها فيسمع، ويقرأ عليها اجتهاداته .. وكان إذا أقعده المرض عن زياراتها أرسل يسألها الدعاء فتدعو له بالشفاء .. وبعد أن فرغ من أول زيارة للسيدة نفسية سأل مرافقيه أن يصحبوه إلى "تاج الجوامع". ـ فهكذا كان يسمي جامع عمرو إذ ذاك ـ فوجد الجامع يعج بحلقات الدرس، وشاهد عجبا..! لم تكن كلها حلقات قرآن وحديث وفقه .. بل كانت فيها حلقات للقصص واللغة، والشعر، وسائر فنون الفكر والمعرفة .. ما أروع انطلاق الحياة الفكرية هنا..! لقد كان من قبل يقول في حسرة: ولو لا الشـعر بالعلـماء يـزري لكنـت الآن أشـعر مـن لبـيد!وقوله: أنا إن عشت لست أعدم قوتا وإذا مت لسـت أعـدم قبرا همـتي همة الملوك ونفسي نفـس حر ترى المذلة كفرا ولكن الإمام الشافعي على الرغم من السماحة التي بهرته في مصر، كان يعاني من ضيق أفق المتعصبين وعدوانهم على الناس .. وكان هذا النفر ينتسب إلى المذهب المالكي ويسيئون بسلوكهم إلى سمعة أستاذ وشيخه العزيز عليه .. فنصب نفسه مفندا لدعاواهم. مر في الطريق بفقيه من هؤلاء يمسك برجل ويتهمه في دينه، والأخير يهزأ بالفقيه .. وأوشكا أن يتضاربا، فخلصهما الشافعي وقال: ما خطبكما؟ فقال الفقيه: "رأيته يبول واقفا". قال الشافعي: "وما في ذلك؟"، قال: "يرد الريح من رشاشه على بدنه فيصلي به" فسأله الشافعي: "فهل رأيته أصابه الرشاش فصلى قبل أن يغسل ما أصابه؟"، فقال "لا" .. "ولكني أراه سيفعل". فضحك الشافعي وحاول أن ينصحه .. فغضب الفقيه، وعربد على الشافعي وسبه .. وتأمله الشافعي، فإذا هو "فتيان" الأحمق الذي سأل الشافعي حين قدم عما إذا كان ظهور العورة ينقض الوضوء، ثم شتمه بعد ذلك في جامع عمرو شتما منكرا. وإن للشافعي مع "فتيان" هذا لشأنا..! وكان "فتيان" هذا يقود جماعة من المتعصبين، يرهب بهم اتباع الإمام الليث لأنه خالف الإمام مالك بن أنس، ويرهب بهم من يلتفون حول الإمام الشافعي منذ اكتشف الشافعي أن الفقه المصري يختلف مع الفقه المالكي في كثير من الأصول والفروع، فأخذ الشافعي برأي إمام الفقه المصري .. الليث ابن سعد. وشرع المتعصبون لمالك يتهمون الشافعي بأنه لا يعرف الحديث، فرد عليهم أنصار الشافعي بشهادة احمد بن حنبل وهو من أكثر الفقهاء انتصارا للحديث" ما من أحد من أصحب الحديث حمل محبرة إلا للشافعي عليه منة. ذلك أن أصحاب الرأي كانوا يهزأون بأصحاب الحديث حتى قدم الشافعي إلى العراق، وأقام الحجة عليهم!". وعلى الرغم مما لقي الشافعي من المتعصبين، فقد ظل يتابع حلقات الحوار والدروس، والناس يفدون إليه من مختلف الأقطار والأمصار، مفتونين بطريقته في الإلقاء والجدل، وببلاغته حين يخطب الجمعة حتى أسموه "خطيب الفقهاء". ومرت به الشهور في مصر، وهو ينتظر مقدم صديقه وتلميذه احمد ابن حنبل .. وكثيرا ما كان يشرد ويقول: "وعدني صاحبي احمد بالقدوم إلى مصر" .. ويتمنى وينتظر .. على أن الواقع المصري الجديد، وما أطلع عليه الشافعي في مصر، من آراء وطرائق للاجتهاد، جعله يعيد النظر في كل ما كتبه من قبل. لقد غير كثيرا من آرائه. ومن أبرز الآراء التي ظهر فيها التأثير المباشر للبيئة المصرية رأيه في الماء .. فقد كان يرى كالإمام مالك أن من حق صاحب الأرض التي بها بئر أن يبيع الماء .. ولكنه في أرض النيل، تابع رأي الإمام الليث. في أن صاحب الأرض التي بها بئر ليس له إلا حق السبق في الاستعمال .. أي الامتياز فقط، وللغير بعد ذلك حق الشرب وسقي الأرض بلا مقابل. وشرع يراجع كتاب "الرسالة" مرة ثالثة ويصقل ما تضمنه من أصول الفقه .. بل أخذ يراجع كل ما كتبه من قبل فأحرق بعضه. ونظر في الآراء التي تابع فيها شيخه (مالك)، وعكف على فقه مالك كله يمحصه على ضوء ما تعلمه في مصر من فقه الليث .. فأعلن في خاصته أن الإمام مالك بن أنس يقول بالأصل ويدع الفرع ويقول بالفرع ويدع الأصل .. ونشر كتابا عن خلافه مع مالك في الأصول والفروع .. وقال إنه مع الليث في خلافه مع مالك! ثم عكف على فقه أبي حنيفة يمحصه وانتهى من دراسته إلى نقد الإمامين مالك وأبي حنيفة. "فما لك أفرط في رعاية المصالح المرسلة وأبو حنيفة قصر نظره على الجزئيات والفروع والتفاصيل من غير مراعاة القواعد والأصول.." وهكذا .. وانقطع الشافعي، يعيد كتابة "الرسالة" ويؤلف كتبا جديدة في الفقه وينقح ويصوب فيما لم يحرقه من الكتب القديمة. وجهد جهدا شديدا في هذا العمل. وروى بعض أهله "بما قدمنا المصباح في ليلة واحدة ثلاثين مرة أو أكثر بين يدي الشافعي، كان يستلقي ويتذكر وينادي: "يا جارية هلمي مصباحا"فتقدمه ويكتب ويكتب ثم يأمر برفع ثم يعود بعد برهة فيطلبه .. وهكذا. "وسألوه" "لماذا لا تبقي المصباح فقد أجهدت جاريتك وأهلك؟". فقال: "الظلمة أجلي للفكر" فقد كان لا يحسن التأمل إلا في السكون والظلمة. وبعد أن فرغ من كتابة فقهه كله أرسل إلى صديقه احمد بن حنبل أن يخبر الناس بترك كل ما كتبه الشافعي من قبل، وأن يأخذوا آراءه من كتبه المصرية وأرسل إليه هذه الكتب المصرية. فلما نظر فيها احمد بن حنبل أعجب بها وسأله أحد أصحابه ما ترى في كتب الشافعي التي عند العراقيين أهي أحب إليك أم تلك التي كتبها بمصر؟ قال احمد: "عليك بالكتب التي وضعها بمصر فإنه لم يحكم ما كتبه قبل ذلك ولكنه أحكم كل ما كتبه بمصر. اتجه الشافعي بالفقه اتجاها علميا جديدا، فهو يعني بالقواعد الكلية ولا يضيع وقته في الفروع، فالكلي ينطبق على الجزئيات. وانتهى في استنباط الحكم من غير النص، إلى الاتجاه إلى الإجماع كمصدر للأحكام، ولكنه لم يشترط إجماع الصحابة كما كان من قبل. والشافعي يطالب الفقهاء والولاة والقضاة بإتقان اللغة العربية، لكي يفهموا النصوص حق الفهم .. فبها نزل القرآن تبيانا لكل شيء وهدى ورحمة وبشرى للمسلمين .. فمن لا يتقن العربية غير جدير بالنظر في الشريعة .. وهو يعني بإتقان العربية إتقان علومها من نحو وصرف وفقه لغة وبلاغة وأدب وشعر. ولقد حضر رجل من خراسان حلقة الشافعي في جامع عمرو فسأل: ما الإيمان؟ فرد الشافعي: "فما تقول أنت فيه". فقال الرجل: الإيمان قول. قال الشافعي: من أين قلت بذلك؟ قال الرجل: "من قوله تعالى: { [ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذا الرابط]} (البينة،الآية:7)فصارت الواو فصلا بين الإيمان والعمل. فسأله الشافعي: "فعندك الواو فصل "قال نعم" قال الشافعي: "فإذن كنت تعبد إلهين إلها في المشرق وإلها في المغرب لأن الله تعالى يقول { [ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذا الرابط] } (الرحمن،الآية:17) قال الرجل: سبحان الله. أجعلتني وثنيا؟ قال الشافعي: بل أنت جعلت نفسك كذلك بزعمك أن الواو فصل. وقد استطاع الشافعي وهو في مصر أن يتحرر في آرائه .. فألف كتابا عن قتال أهل البغي لعله لم يكن يستطيع أن يضعه في غير مصر!. وقتال أهل البغي قام على تفسير قوله تعالى: "فقاتلوا التي تبغي حتى تفئ إلى أمر الله". وقد ورد هذا النص باقتتال المسلمين، إذا فئة منهم بغت على الأخرى .. وأهل البغي عند الشافعي هم معاوية بن أبي سفيان وجنوده الذين حاربوا أمير المؤمنين علي ابن أبي طالب. والشافعي يرى قتالهم واجبا شرعيا .. وكان بنو على مضطهدين في حكم بني أمية، وظلوا كذلك في حكم بني العباس .. الحكم الذي عاش في ظله الإمام الشافعي .. فرأيه في أهل البغي يؤيد حزبا تحاربه الدولة .. لم يحفل بذلك وهو في مصر، واحتج في قتال أهل البغي وفي حكم الأسرى منهم بما صنعه الإمام علي في معركة الجمل ومعركة صفين .. فهو لم يقتل أسيرا نمهم، ولم يقتل رجلا مدبرا عن القتال، وهو لم يغنم من أموالهم إلا السلاح والخيل والدواب. أي أدوات الحرب وحدها! والإمام علي لم يقتل مدبرا من أهل البغي لأنه ربما كان هذا المدبر بإدباره قد رجع عن البغي ونوى البيعة لأمير المؤمنين، ولم يكن قتال أهل البغي دراسة تاريخية، بل دراسة فقهية لأن الأحزاب تتقاتل، وينبغي أن يتحدد حكم واضح في الأمر كله .. ولقد نقد بعض أصحاب احمد بن حنبل شيخه الشافعي على كتابه قتال أهل البغي وقالوا أنه متشيع، فقال احمد: سبحان الله .. وهل أبتلى أحد بقتال أهل البغي قبل أمير المؤمنين علي بن أبي طالب!؟. مرة أخرى يضطر الشافعي إلى الاشتغال بالسياسة .. ولكنه في هذه المرة يضطر إلى الاشتغال بالسياسة لا بحكم الوظيفة أو المنصب، بل بحكم انشغاله الكامل بالفقه والعلم..! وقد أتاحت له البيئة الثقافية في مصر أن يفكر ويقول ويكتب في طلاقة وأمن. وفي مصر تحدث الشافعي عن الشورى ومكانتها في الإسلام، واعتبرها فرضا على الحاكم والمحكوم .. بها أمر الله ورسوله .. وكان الرسول صلى الله عليه وسلم يقول فيما لم ينزل فيه وحي "أشيروا علي أيها الناس" .. وما كان في حاجة إلى مشورة، ولكنه أراد أن يسن لولي الأمر من بعده، وروى عن أحد الحكماء أنه قال: "ما أخطأت قط، إذا حزبني أمر شاورت قومي، ففعلت الذي يرون، فإن أصبت فهم المصيبون وإن أخطأت فهم المخطئون. وعلى الحاكم أن يستشير أهل الرأي، ويأخذ برأيهم فيما فيه مصالحهم. ومن العدل أن يحسن اختيار الولاة،فقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم: "من ولى من أمر المسلمين شيا فولي رجلا وهو يجد من هو أصلح للمسلمين منه، فقد خان الله ورسوله والمؤمنين"والشافعي يرى أن الحاكم واجب الطاعة مادام الناس قد اختاروه باختيار حر، وبيعة لا إكراه فيها ولا زيف، وإن كان هذا الحاكم قد غلب على الأمر وانتزعه من صاحبه .. وهو يكتسب الشرعية من مبايعة الرعية فإن رأوا في أمر الحاكم ما يخالف الله ورسوله فلهم ألا يطيعوه. واستند في هذا إلى ما كان بين عثمان وعلي، فقد هاجم أبو ذر الكانزين وعاب سلوك معاوية وجماعته، فشكاه إلى أمير المؤمنين عثمان بن عفان، فنهاه، فلم يسكت أبو ذر، فنفاه الخليفة إلى مكان منقطع بالصحراء اسمه "الربذة" وأمر بأن يتجافاه الناس، غير أن علي بن أبي طالب صحب أبا ذر، وودعه كما ودعه عدد من الصحابة!. فقال عثمان لعلي: " .. ألم يبلغك أني نهيت الناس عن أبي ذر وعن تشيعه؟. فقال علي: "أو كل ما أمرتنا به من شيء نرى طاعة الله والحق في خلافه اتبعنا أمرك؟ بالله لا نفعل". ثم إن الشافعي اهتدى إلى أن عمل أهل المدينة ليس حجة على المسلمين في كل البلاد، فقد انتشر الصحابة في كل الأقطار وعلموا الناس، وقد وجد في عمل أهل مصر ما هو أدنى للعدل وروح الشريعة، كاستحقاق الزوجة لنصف المهر عند الطلاق. بهذه الآراء الجديدة جلس الإمام الشافعي يعلم الناس ويحاورهم في حلقاته الثلاث حلقة القرآن، وحلقة الحديث، وحلقة الأدب والمعارف الإنسانية .. وفي هذه الحلقات لخص قواعد أصول الفقه بقوله: "نحكم بالكتاب والسنة المجمع عليها التي لا اختلاف فيها، فنقول لهذا حكمنا بالحق في الظاهر والباطن، ونحكم بنسبة رويت عن طريق الانفراد لا يجتمع الناس عليها أي الأحاديث التي يرويها أحاد، ونحكم بالإجماع ثم القياس وهو أضعف من هذا، ولكنه منزلة ضرورية لأنه لا يحل القياس والخبر موجود" .. وفي الحق أن الإمام الشافعي كلف نفسه من المشقة ما لا تحتمله طاقة بشر. فقد أعاد في نحو خمسة أعوام كتابه ما ألفه في نحو ثلاثين عاما، وزاد على ذلك كتبا جديدة كتبها أو أملاها". وبلغ مجموع ما كتبه في مصر آلاف الصفحات، وجمع معظم ما ألفه في مصر في كتاب "الأم" وشرع يدرس هذا كله في حلقاته، ويحاور فيه، وينصح مستمعيه ألا ينظروا في علم الكلام الذي يبحث في القدر والجبر وصفات الله، وأن يهتموا من علوم الدين بالفقه. وقال: "إياكم النظر في الكلام فإن الرجل أو سئل عن مسألة في الفقه فأخطأ فيها "كما لو سئل عن رجل قتل رجلا فقال ديته بيضة كان أكثر شيء إن يضحك منه، ولو سئل عن مسألة في الكلام فأخطأ فيها نسب إلى البدعة". أجهده طول الجلوس للكتاب | |
|